فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد ابن العربي في الآية:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}.
فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَعْدِيدِ أَشْهُرِ الْحَجِّ:
وَفِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: شَوَّالٌ، وَذُو الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ كُلُّهُ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَقَتَادَةُ، وَطَاوُسٌ، وَمَالِكٌ.
الثَّانِي: وَعَشْرَةُ أَيَّامٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ؛ قَالَهُ مَالِكٌ أَيْضًا، وَأَبُو حَنِيفَةَ.
الثَّالِثُ: وَعَشْرُ لَيَالٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالشَّافِعِيُّ.
الرَّابِعُ: إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؛ قَالَهُ مَالِكٌ أَيْضًا.
فَمَنْ قَالَ: إنَّهُ ذُو الْحِجَّةِ كُلُّهُ أَخَذَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَالتَّعْدِيدُ لِلثَّلَاثَةِ.
وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ قَالَ: إنَّ الطَّوَافَ وَالرَّمْيَ فِي الْعَقَبَةِ رُكْنَانِ يُفْعَلَانِ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ.
وَمَنْ قَالَ: عَشْرُ لَيَالٍ قَالَ: إنَّ الْحَجَّ يَكْمُلُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ النَّحْرِ لِصِحَّةِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَهُوَ الْحَجُّ كُلُّهُ.
وَمَنْ قَالَ: آخِرَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ رَأَى أَنَّ الرَّمْيَ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَشَعَائِرِهِ، وَبَعْضُ الشَّهْرِ يُسَمَّى شَهْرًا لُغَةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تأخير طواف الإفاضة:
فَائِدَةُ مَنْ جَعَلَهُ ذَا الْحِجَّةِ كُلَّهُ أَنَّهُ إذَا أَخَّرَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ إلَى آخِرِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ بِهِ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أشهر الحج:
لَا خِلَافَ فِي أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَهَا وَتَنْصِيصِهِ عَلَيْهَا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَهَا كَذَلِكَ فِي مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاسْتَمَرَّتْ عَلَيْهِ الْحَالُ إلَى أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَبَقِيَتْ كَذَلِكَ حَتَّى كَانَتْ الْعَرَبُ تَرَى أَنَّ الْعُمْرَةَ فِيهَا مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ تُغَيِّرُهَا فَتُنْسِئُهَا وَتُقَدِّمُهَا حَتَّى عَادَتْ يَوْمَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ إلَى حَدِّهَا.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَأْثُورِ الْمُنْتَقَى: «إنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا» الْحَدِيثَ.
الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ التَّمَتُّعَ، وَهُوَ ضَمُّ الْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ بَيَّنَ أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ لَيْسَتْ جَمِيعَ الشُّهُورِ فِي الْعَامِ، وَإِنَّمَا هِيَ الْمَعْلُومَاتُ مِنْ لَدُنْ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَيَّنَ قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}.
أَنَّ جَمِيعَهَا لَيْسَ الْحَجُّ تَفْصِيلًا لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ تَخْصِيصًا لِبَعْضِهَا بِذَلِكَ، وَهِيَ شَوَّالُ وَذُو الْقِعْدَةِ وَجَمِيعُ ذِي الْحِجَّةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَصَحِيحُ قَوْلِ عُلَمَائِنَا؛ فَلَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا مَنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْعَامِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا مَنْ أَتَى بِالْعُمْرَةِ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ الْمَخْصُوصَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ الاختلاف في تقديرها:
اخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِهَا؛ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَسِوَاهُ: تَقْدِيرُهَا الْحَجُّ حَجُّ أَشْهُرٍ مَعْلُومَاتٍ، وَهَذَا التَّقْدِيرُ مِنْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى الْإِحْرَامَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ كَمَا لَا يَرَى أَحَدٌ الْإِحْرَامَ قَبْلَ وَقْتِ الصَّلَاةِ بِهَا.
وَقَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ: أَشْهُرُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ لُغَةً فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ وَعَيَّنَّاهُ فِقْهًا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ أَنَّ النِّيَّةَ تَكْفِي بَاطِنًا فِي الْتِزَامِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ}:
الْمَعْنَى الْتَزَمَهُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ فَرَضَ عَلَيْهِ بِالنِّيَّةِ قَصْدًا بَاطِنًا، وَبِالْإِحْرَامِ فِعْلًا ظَاهِرًا، وَبِالتَّلْبِيَةِ نُطْقًا مَسْمُوعًا؛ قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي التَّلْبِيَةِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ أَنَّ النِّيَّةَ تَكْفِي بَاطِنًا فِي الْتِزَامِهِ عَنْ فِعْلٍ أَوْ نُطْقٍ، وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ كَمَا قَدَّمْنَا مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ: إنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَ الْإِحْرَامِ بِهَذِهِ الْأَشْهُرِ، فَلَا يُقَدَّمُ عَلَيْهَا، وَأَبَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ.
وَالْمَسْأَلَةُ مُشْكِلَةٌ مُعْضِلَةٌ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْبَيَانَ فِيهَا، وَأَوْضَحْنَا لُبَابَهُ فِي كِتَابِ التَّلْخِيصِ، وَأَنَّ الْقَوْلَ فِيهَا دَائِرٌ مِنْ قِبَلِ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ رُكْنٌ مِنْ الْحَجِّ مُخْتَصٌّ بِزَمَانِهِ، وَمُعَوَّلُنَا عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ، وَهُنَاكَ تَبَيَّنَ التَّرْجِيحُ بَيْنَ النَّظَرَيْنِ، وَظَهَرَ أَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ فِي الْآيَةِ مِنْ الْقَوْلَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ}:
الرَّفَثُ: كُلُّ قَوْلٍ يَتَعَلَّقُ بِذِكْرِ النِّسَاءِ؛ يُقَالُ: رَفَثَ يَرْفُثُ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَضَمِّهَا.
وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ مِنْ الْجِمَاعِ وَالْمُبَاشَرَةِ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ}.
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ يَرَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ إلَّا إذَا رُوجِعَ بِهِ النِّسَاءُ، وَأَمَّا إذَا ذَكَرَهُ الرَّجُلُ مُفْرِدًا عَنْهُنَّ لَمْ يَدْخُلْ فِي النَّهْيِ.
وَفِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّ الْحَجَّ مُنِعَ فِيهِ مِنْ التَّلَفُّظِ بِالنِّكَاحِ، وَهِيَ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، فَكَيْفَ بِالِاسْتِرْسَالِ عَلَى الْقَوْلِ يُذْكَرُ كُلُّهُ، وَهَذِهِ بَدِيعَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ}:
أَرَادَ نَفْيَهُ مَشْرُوعًا لَا مَوْجُودًا، فَإِنَّا نَجِدُ الرَّفَثَ فِيهِ وَنُشَاهِدُهُ.
وَخَبَرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ بِخِلَافِ مُخْبِرِهِ، فَإِنَّمَا يَرْجِعُ النَّفْيُ إلَى وُجُودِهِ مَشْرُوعًا لَا إلَى وُجُودِهِ مَحْسُوسًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}.
مَعْنَاهُ شَرْعًا لَا حِسًّا، فَإِنَّا نَجِدُ الْمُطَلَّقَاتِ لَا يَتَرَبَّصْنَ، فَعَادَ النَّفْيُ إلَى الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، لَا إلَى الْوُجُودِ الْحِسِّيِّ.
وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ} إذَا قُلْنَا: إنَّهُ وَارِدٌ فِي الْآدَمِيِّينَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَمَسُّهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِشَرْعٍ؛ فَإِنْ وُجِدَ الْمَسُّ فَعَلَى خِلَافِ حُكْمِ الشَّرْعِ، وَهَذِهِ الدَّقِيقَةُ هِيَ الَّتِي فَاتَتْ الْعُلَمَاءَ فَقَالُوا: إنَّ الْخَبَرَ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى النَّهْيِ، وَمَا وُجِدَ ذَلِكَ قَطُّ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُوجَدَ فَإِنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً وَيَتَضَادَّانِ وَصْفًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وقوع الوطء في الحج:
إذَا وَقَعَ الْوَطْءُ فِي الْحَجِّ أَفْسَدَهُ؛ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ كَالْأَكْلِ فِي الصَّوْمِ أَوْ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ؛ فَإِنْ وَقَعَتْ الْمُبَاشَرَةُ لَمْ تُفْسِدْهُ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا لِكَوْنِهَا دَاعِيَةً إلَى الْجِمَاعِ، كَمَا حَرَّمَ الطِّيبَ وَالنِّكَاحَ، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ وَلَا يَخْطُبُ»، وَلَوْ وُجِدَ الطِّيبُ وَالنِّكَاحُ لَمْ يَفْسُدْ الْحَجُّ، فَكَذَلِكَ بِالْمُبَاشَرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَا فُسُوقَ}:
فِيهِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ؛ أُمَّهَاتُهَا ثَلَاثٌ: الْأَوَّلُ: جَمِيعُ الْمَعَاصِي قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ».
الثَّانِي: أَنَّهُ قَتْلُ الصَّيْدِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ الذَّبْحُ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَخْلُو عَنْ ذَبْحٍ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَذْبَحُونَهُ لِغَيْرِ اللَّهِ فِسْقًا، فَشَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِوَجْهِهِ نُسُكًا.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ جَمِيعُهَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ: «مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ». وَقَالَ: «الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا الْجَنَّةُ». فَقَالَ الْفُقَهَاءُ: الْحَجُّ الْمَبْرُورُ، هُوَ الَّذِي لَمْ يَعْصِ اللَّهَ فِي أَثْنَاءِ أَدَائِهِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْحَجُّ الْمَبْرُورُ هُوَ الَّذِي لَمْ يَعْصِ اللَّهُ بَعْدَهُ.
وَقَدْ رَوَيْنَا فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي ذَرٍّ: «مَنْ حَجّ ثُمَّ لَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ» بِقَوْلِهِ: ثُمَّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}:
أَرَادَ لَا جِدَالَ فِي وَقْتِهِ؛ فَإِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَعَادَ بِذَلِكَ إلَى يَوْمِهِ وَوَقْتِهِ.
وَقِيلَ: لَا جِدَالَ فِي مَوْضِعِهِ؛ فَإِنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ كَانَ مِنْ الْحُمْسِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ صَحِيحٌ.
وَقَدْ رَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْجِدَالَ فِي الْوَجْهَيْنِ بَيْنَ الْخَلْقِ، فَلَا يَكُونُ إلَى الْقِيَامَةِ؛ وَلِهَذَا قَرَأَهُ الْعَامَّةُ وَحْدَهُ بِنَصَبِ اللَّامِ عَلَى التَّبْرِئَةِ دُونَ الْكَلِمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُ.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}:
أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّزَوُّدِ مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ؛ فَإِنْ كَانَ ذَا حِرْفَةٍ تَنْفُقُ فِي الطَّرِيقِ، أَوْ سَائِلًا فَلَا خِطَابَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا خَاطَبَ اللَّهُ تَعَالَى أَهْلَ الْأَمْوَالِ الَّذِينَ كَانُوا يَتْرُكُونَ أَمْوَالَهُمْ وَيَخْرُجُونَ بِغَيْرِ زَادٍ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ؛ وَالتَّوَكُّلُ لَهُ شُرُوطٌ بَيَانُهَا فِي مَوْضِعِهَا يَخْرُجُ مَنْ قَامَ بِهَا بِغَيْرِ زَادٍ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْخِطَابِ.
وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَإِنَّهُ خَرَجَ عَلَى الْأَغْلَبِ مِنْ الْخَلْقِ وَهُمْ الْمُقَصِّرُونَ عَنْ دَرَجَةِ التَّوَكُّلِ الْغَافِلُونَ عَنْ حَقَائِقِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)}.
أخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في قوله: {الحج أشهر معلومات} شوال، وذو القعدة، وذو الحجة».
وأخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحج أشهر معلومات شوال، وذو القعدة، وذو الحجة».
وأخرج الخطيب عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في قوله تعالى: {الحج أشهر معلومات} شوال، وذو القعدة، وذو الحجة».
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن عمر بن الخطاب {الحج أشهر معلومات} قال: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة.
وأخرج الشافعي في الأم وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن نافع. أنه سئل أسمعت عبد الله بن عمر يسمي شهور الحج؟ فقال: نعم، كان يسمّي شوالًا، وذا القعدة، وذا الحجة.
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس وعطاء والضحاك. مثله. وأخرج وكيع وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في سننه من طرق عن ابن عمر {الحج أشهر معلومات} قال: شوال، وذو القعدة، وعشر ليال من ذي الحجة.
وأخرج وكيع وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن مسعود {الحج أشهر معلومات} قال شوال، وذو القعدة، وعشر ليال من ذي الحجة.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي من طرق عن ابن عباس {الحج أشهر معلومات} قال: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، لا يفرض الحج إلا فيهن.
وأخرج ابن المنذر والدارقطني والطبراني والبيهقي عن عبد الله بن الزبير {الحج أشهر معلومات} قال: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة. وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن ومحمد وإبراهيم. مثله.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن مسعود. أنه سئل عن العمرة في أشهر الحج فقال: الحج أشهر معلومات، ليس فيهن عمرة.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن محمد بن سيرين قال: ما أحد من أهل العلم شك أن عمرة في غير أشهر الحج أفضل من عمرة في أشهر الحج.
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمر قال: قال عمر: افصلوا بين حجكم وعمرتكم، اجعلوا الحج في أشهر واجعلوا العمرة في غير أشهر الحج، أتم لحجكم ولعمرتكم.
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عون قال: سئل القاسم عن العمرة في أشهر الحج؟ فقال: كانوا لا يرونها تامة.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عمر في قوله: {فمن فرض فيهن الحج} قال: من أهلَّ فيهن الحج.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي عن ابن مسعود قال: الفرض الإِحرام.
وأخرج ابن أبي شيبة عن الضحاك. مثله.
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن الزبير {فمن فرض فيهن الحج} قال: الإِهلال.
وأخرح ابن المنذر والدارقطني والبيهقي عن ابن الزبير قال: فرض الحج الإِحرام.
وأخرح ابن المنذر عن ابن عباس قال: الفرض الإِهلال.
وأخرج ابن أبي شيبة عن الزهري قال: الإِهلال الحج.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس {فمن فرض فيهن الحج} يقول: من أحرم بحج أو عمرة.
وأخرج الشافعي في الأم وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج من أجل قول الله: {الحج أشهر معلومات}.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن خزيمة والحاكم وصححه والبيهقي عن ابن عباس قال: لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج، فإن من سنة الحج أن يحرم بالحج في أشهر الحج.
وأخرج ابن مردويه عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج». وأخرج الشافعي في الأم وابن أبي شيبة والبيهقي عن جابر موقوفا. مثله.
وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء أنه قال لرجل قد أحرم بالحج في غير أشهر الحج: اجعلها عمرة فإنه ليس لك حج، فإن الله يقول: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: فمن فرض فيهن الحج فلا ينبغي أن يلبي بالحج ثم يقيم بأرض.
وأخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عمر {فمن فرض فيهن الحج} قال: التلبية والإِحرام.
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود {فمن فرض فيهن الحج} قال: التلبية.
وأخرج ابن أبي شيبة عن طاوس {فمن فرض فيهن الحج} قال: التلبية.
وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء وإبراهيم. مثله.
وأخرج مالك والشافعي وابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة والحاكم وصححه عن خلاد بن السائب عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالاهلال والتلبية فإنها شعار الحج».
وأخرج ابن أبي شيبة وابن ماجة وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه عن زيد بن خالد الجهني. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جاءني جبريل فقال: مر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالتلبية، فإنها من شعار الحج». وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن الزبير قال: التلبية زينة الحج.
وأخرج الترمذي وابن ماجة وابن خزيمة والحاكم وصححه عن أبي بكر الصديق «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الأعمال أفضل؟ قال: العج والثلج».
وأخرج الترمذي وابن ماجة وابن خزيمة والحاكم وصححه والبيهقي عن سهل بن سعد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من ملب يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا عن يمينه وشماله».
وأخرج أحمد وابن ماجة عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من محرم يضحي لله يومه، يلبي حتى تغيب الشمس إلا غابت بذنوبه فعاد كما ولدته أمه».
وأخرج مالك والشافعي وابن أبي شيبة والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عمر «أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، لبيك إن الحمد والنعمة لك، والملك لا شريك لك» وكان ابن عمر يزيد فيها لبيك لبيك وسعديك، والخير بيديك لبيك والرغباء إليك والعمل.
وأخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس. أن رجلًا أوقصته راحلته وهو محرم فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تخمروا رأسه ولا وجهه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا». وأخرج الشافعي عن جابر بن عبد الله قال: ما سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلبيته حجًا قط ولا عمرة. وأخرج الشافعي وابن أبي شيبة والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال: كان من تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لبيك إله الخلق لبيك».
وأخرج الشافعي وابن أبي شيبة عن سعد بن أبي وقاص. أنه سمع بعض بني أخيه وهو يلبي: يا ذا المعارج. فقال سعد: إنه لذو المعارج، وما هكذا كنا نلبي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج الشافعي عن خزيمة بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه كان إذا فرغ من تلبية سأل الله رضوانه والجنة، واستعاذه برحمته من النار». وأخرج الشافعي عن محمد بن المنكدر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من التلبية.
أما قوله تعالى: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}.
أخرج الطبراني عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في قوله: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} قال: الرفث الاعرابة والتعريض للنساء بالجماع، والفسوق المعاصي كلها، والجدال جدال الرجل لصاحبه».
وأخرج ابن مردويه والأصبهاني في الترغيب عن أبي أمامة قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {فمن فرض فيهن الحج فلا رفث} قال: لا جماع ولا فسوق. قال: المعاصي والكذب».
وأخرج وكيع وسفيان بن عيينة والفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه من طرق عن ابن عباس في الآية: الرفث الجماع، والفسوق المعاصي، والجدال المراء. وفي لفظ: أن تماري صاحبك حتى يغضبك أو تغضبه.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال: الرفث غشيان النساء والقبل والغمز وأن يعرض لها بالفحش من الكلام، والفسوق معاصي الله كلها، والجدال المراء والملاحاة.
وأخرج سفيان بن عيينة وعبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن طاوس قال: سألت ابن عباس عن قوله: {فلا رفث} قال: الرفث الذي ذكر هنا ليس الرفث الذي ذكر في {أحل لكم ليلة الصيام الرفث} [البقرة: 187] ذاك الجماع، وهذا العراب بكلام العرب، والتعريض بذكر النكاح.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي العالية قال: كنت أمشي مع ابن عباس وهو محرم وهو يرتجز بالإِبل ويقول:
وهن يمشين بنا هميسًا ** إن صدق الطير ننك لميسا

فقلت: أترفث وأنت محرم؟ قال: إنما الرفث ما روجع به النساء.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير والحاكم وصححه والبيهقي عن ابن عمر في الآية قال: الرفث الجماع، والفسوق المعاصي، والجدال السباب والمنازعة.
وأخرج ابن أبي شيبة والطبراني في الأوسط عن ابن عمر في قوله: {فلا رفث} قال: غشيان النساء {ولا فسوق} قال: السباب {ولا جدال} قال: المراء.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر في الآية فقال: الرفث اتيان النساء والتكلم بذلك للرجال والنساء إذا ذكروا ذلك بأفواههم، والفسوق اتيان معاصي الله في الحرم، والجدال السباب، والمراء والخصومات. وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال: كان ابن عمر يقول للحادي: لا تعرض بذكر النساء.
وأخرج ابن أبي شيبة عن طاوس أن عبد الله بن الزبير قال: إياكم والنساء فإن الاعراب من الرفث. قال طاوس: وأخبرت بذلك ابن عباس فقال: صدق ابن الزبير.
وأخرج ابن أبي شيبة عن طاوس. أنه كره الاعراب للمحرم قيل: وما الاعراب؟ قال: أن يقول لو أحللت قد أصبتك. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في الآية قال: الرفث اتيان النساء، والجدال تماري صاحبك حتى تغضبه.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والشيرازي في الألقاب عن ابن عباس في الآية قال: الرفث الجماع، والفسوق والمنابزة بالألقاب تقول لأخيك: يا ظالم يا فاسق، والجدال أن تجادل صاحبك حتى تغضبه.
وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد وعكرمة قالا: الرفث الجماع، والفسوق المعاصي، والجدال المراء.
وأخرج ابن أبي شيبة عن الضحاك وعطاء.
مثله.
وأخرج ابن أبي شيبة عن إبراهيم قال: الرفث اتيان النساء، والفسوق السباب، والجدال المماراة.
وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن قال: الرفث الغشيان، والفسوق السباب، والجدال الاختلاف في الحج.
وأخرج الطبراني عن عبد الله بن الزبير في قوله: {فلا رفث} قال: لا جماع {ولا فسوق} لا سباب {ولا جدال} لا مراء.
وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي في قوله: {ولا جدال في الحج} قال: الجدال كانت قريش إذا اجتمعت بمنى قال هؤلاء: حجنا أتم من حجكم. وقال هؤلاء: حجنا أتم من حجكم.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله: {ولا جدال في الحج} قال: كانوا يقفون مواقف مختلفة يتجادلون كلهم يدعي أن موقفه موقف إبراهيم، فقطعه الله حين أعلم نبيه بمناسكهم.
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله: {ولا جدال في الحج} قال: لا شبهة في الحج ولا شك في الحج قد بين وعلم وقته، كانوا يحجون في ذي الحجة عامين وفي المحرم عامين، ثم حجوا في صفر من أجل النسيء الذي نسأ لهم أبو يمامة حين وافقت حجة أبي بكر في ذي القعدة قبل حجة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم من قابل في ذي الحجة، فذلك حين يقول: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض.
وأخرج سفيان بن عيينة وابن أبي شيبة عن مجاهد في قوله: {ولا جدال في الحج} قال: صار الحج في ذي الحجة فلا شهر ينسىء.
وأخرج سفيان وابن أبي شيبة والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه». وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر». وأخرج ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة. مثله.
وأخرج عبد بن حميد في مسنده عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قضى نسكه وقد سلم المسلمون من لسانه ويده غفر له ما تقدم من ذنبه».
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما عمل أحبّ إلى الله من جهاد في سبيله، وحجة مبرورة متقبلة لا رفث ولا فسوق ولا جدال».
وأخرج الأصبهاني في الترغيب عن سعيد بن المسيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من عمل بين السماء والأرض بعد الجهاد في سبيل الله أفضل من حجة مبرورة، لا رفث فيها ولا فسوق ولا جدال».
وأخرج الحاكم وصححه عن أسماء بنت أبي بكر قالت «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجاجًا، وكانت زاملتنا مع غلام أبي بكر، فجلسنا ننتظر حتى تأتينا، فاطلع الغلام يمشي ما معه بعيره فقال أبو بكر: أين بعيرك؟ قال: أضلني الليلة، فقام أبو بكر يضربه، ويقول: بعير واحد أضلك وأنت رجل؟ فما يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن تبسم وقال: انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع».
وأخرج ابن أبي شيبة عن طاوس قال: لا ينظر المحرم في المرآة ولا يدعو على أحد، وإن ظلمه.
وأما قوله تعالى: {وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب}.
أخرج عبد بن حميد والبخاري وأبو داود والنسائي وابن المنذر وابن حبان والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزوّدون، يقولون: نحن متوكلون، ثم يقدمون فيسألون الناس، فأنزل الله: {وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى}.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان ناس يخرجون من أهليهم ليست معهم أزودة يقولون: نحج بيت الله ولا يطعمنا. فقال الله: {وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى} ما يكف وجوهكم عن الناس.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عمر قال: كانوا إذا أحرموا ومعهم أزوادهم رموا بها واستأنفوا زادًا آخر، فأنزل الله: {وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى} فنهوا عن ذلك، وأمروا أن يتزوّدوا الكعك والدقيق والسويق.
وأخرج الطبراني عن الزبير قال: كان الناس يتوكل بعضهم على بعض في الزاد، فأمرهم الله أن يتزوّدوا فقال: {وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى}. وأخرج ابن جرير عن إبراهيم النخعي قال: كان الناس من الأعراب يحجون بغير زاد ويقولون: نتوكل على الله، فأنزل الله: {وتزوّدوا} الآية.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة {وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى} قال: كان أناس من أهل اليمن يحجون ولا يتزوّدون، فأمرهم الله بالزاد والنفقة في سبيل الله، وأخبرهم أن خير الزاد التقوى.
وأخرج سفيان بن عيينة وابن أبي شيبة عن عكرمة في قوله: {وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى} قال: كان أناس يقدمون مكة بغير زاد في أيام الحج، فأمروا بالزاد.
وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير {وتزوّدوا} قال: السويق والدقيق والكعك.
وأخرج وكيع وابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير {وتزوّدوا} قال: الخشكناتج والسويق.
وأخرج سفيان بن عيينة عن سعيد بن جبير {وتزوّدوا} قال: هو الكعك والزيت.
وأخرج وكيع وسفيان بن عيينة وابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن الشعبي قال: {وتزوّدوا} قال: الطعام التمر والسويق.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حبان قال «لما نزلت هذه الآية: {وتزوّدوا} قام رجل من فقراء المسلمين فقال: يا رسول الله ما نجد زادًا نتزوّده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تزوّد ما تكف به وجهك عن الناس، وخير ما تزودتم به التقوى».
وأخرج ابن أبي داود في المصاحف عن سفيان قال: في قراءة عبد الله: {وتزوّدوا وخير الزاد التقوى}.
وأخرج الطبراني عن جرير بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من يتزوّد في الدنيا ينفعه في الآخرة». وأخرج الأصبهاني في الترغيب عن الزبير بن العوّام «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: العباد عباد الله والبلاد بلاد الله، فحيث وجدت خيرًا فأقم واتق الله».
وأخرج أحمد والبغوي في معجمه والبيهقي في سننه والأصبهاني عن رجل من أهل البادية قال «أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يعلمني مما علمه الله، فكان فيما حفظت عنه أن قال: إنك لن تدع شيئًا اتقاء الله إلا أعطاك الله خيرًا منه».
وأخرج أحمد والبخاري في الأدب والترمذي وصححه وابن ماجة وابن حبان والحاكم والبيهقي في شعب الإِيمان والأصبهاني في الترغيب عن أبي هريرة قال «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال: تقوى الله وحسن الخلق، وسئل ما أكثر ما يدخل الناس النار؟ قال: الأجوفان: الفم والفرج».
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب التقوى عن رجل من بني سليط قال «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يظلمه، التقوى هاهنا التقوى هاهنا وأومأ بيده إلى صدره».
وأخرج الأصبهاني عن قتادة بن عياش قال «لما عقد لي رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومي أتيته مودعًا له فقال: جعل الله التقوى زادك، وغفر ذنبك، ووجهك للخير حيث تكون».
وأخرج الترمذي والحاكم عن أنس قال «جاء رجل فقال: يا رسول الله إني أريد سفرًا فزوّدني، فقال: زوّدك الله التقوى قال: زدني. قال: وغفر ذنبك. قال: زدني بأبي أنت وأمي. قال: ويسر لك الخير حيثما كنت».
وأخرج الترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجة والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد سفرًا فقال: أوصني. قال: أوصيك بتقوى الله والتكبير على كل شرف، فلما مضى قال: اللهم ازو له الأرض، وهوّن عليه السفر».
وأخرج الأصبهاني في الترغيب عن أبي بكر الصديق. أنه قال في خطبته: الصدق أمانة، والكذب خيانة، أكيس الكيس التقى، وأنوك النوك الفجور.
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب التقوى عن عمر بن الخطاب.
أنه كتب إلى ابنه عبد الله: أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله، فإنه من اتقاه وفاه، ومن أقرضه جزاه، ومن شكره زاده، واجعل التقوى نصب عينيك، وجلاء قلبك، واعلم أنه لا عمل لمن لا نية له، ولا أجر لمن لا حسنة له، ولا مال لمن لا رفق له، ولا جديد لمن لا خلق له.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن مالك بن دينار قال: سألت الحسن ما زين القرآن؟ قال: التقوى.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن قتادة قال: مكتوب في التوراة: ابن آدم اتق الله ونم حيث شئت.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن وهب بن منبه قال: الإِيمان عريان ولباسه التقوى، وزينته الحياء، وماله العفة.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن داود بن هلال قال: كان يقال: الذي يقيم به العبد وجهه عند الله التقوى، ثم يتبعه الورع.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن عروة قال: كتبت عائشة إلى معاوية. أما بعد فاتق الله فإنك إذا اتقيت الله كفاك الناس، وإذا اتقيت الناس لم يغنوا عنك من الله شيئًا.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي حازم قال: ترصدني أربعة عشر عدوًا، أما أربعة منها فشيطان يضلني، ومؤمن يحسدني، وكافر يقاتلني، ومنافق يبغضني. وأما العشرة منها فالجوع، والعطش، والحر، والبرد، والعري، والهرم، والمرض، والفقر، والموت، والنار، ولا أطيقهن إلا بسلاح تام، ولا أجد لهم سلاحًا أفضل من التقوى.
وأخرج الأصبهاني في الترغيب عن ابن أبي نجيح قال: قال سليمان بن داود عليهما السلام: أوتينا مما أوتي الناس ومما لم يؤتوا، وعلمنا مما علم الناس وما لم يعلموا، فلم نجد شيئًا هو أفضل من تقوى الله في السر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر.
وأخرج الأصبهاني عن زيد بن أسلم قال: كان يقال: من اتقى الله أحبه الناس وإن كرهوا. اهـ.